فصل: فصل: فيما جاء في الميزان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***


صحائف الأعمال تؤخذ باليمين والشمال

ونشرت صحائف الأعمال *** تؤخذ باليمين والشمال

طوبى لمن يؤخذ باليمين *** كتابه بشرى بحور عين

والويل للآخذ بالشمال *** وراء ظهر للجحيم صالي

‏(‏ونشرت صحائف‏)‏ كتب ‏(‏الأعمال‏)‏ من حسنات وسيئات، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا الصحف نشرت‏)‏‏.‏ ‏(‏التكوير‏:‏ 10‏)‏ ‏(‏تؤخذ باليمين‏)‏ للمؤمن ‏(‏والشمال‏)‏ للكافر ‏(‏طوبى‏)‏ أطيب شيء واسم شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ‏(‏لمن يأخذ باليمين كتابه بشرى‏)‏ أعظم بشارة ‏(‏بحور‏)‏ جمع حوراء صفة لهن من حور العين وهو شدة سواد العينين في شدة بياضهما ‏(‏عين‏)‏ عين الأعين ‏(‏والويل‏)‏ كلمة عذاب وواد في جهنم ‏(‏للآخذ بالشمال‏)‏ كتابه ‏(‏وراء ظهر للجحيم صال‏)‏ اسم فاعل من صلى يصلي غمر فيها، وقد ذكر الله تعالى تطاير الصحف ونشرها وتناولها في غير من كتابه مع بيان منازل أهلها كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا‏)‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 14‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا‏)‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 71‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية وأما من أوتي كتابة بشماله فيقول يا ليتنى لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم

‏[‏صفحة‏]‏

الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون‏)‏ ‏(‏الحاقة‏:‏ 18- 37‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن ألن يحور بلى إن ربه كان به بصيرا‏)‏ ‏(‏الانشقاق‏:‏ 6- 15‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون‏)‏ ‏(‏الجاثية‏:‏ 29‏)‏ قال ابن عباس ومجاهد وغيرها ‏(‏وكل أنسان ألزمناه طائره في عنقه‏)‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 13‏)‏‏:‏ طائره هو ما طار عنه من عمله من خير وشر ويلزم به ويجازى عليه‏.‏ ‏(‏ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا‏)‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 13‏)‏ قال معمر‏:‏ وتلا الحسن البصري ‏(‏عن اليمين وعن الشمال قعيد‏)‏ ‏(‏ق‏:‏ 17‏)‏ يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل به ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا ‏(‏اقرا كتابك‏)‏ الآية‏.‏ فقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك‏.‏

وروى البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏يوم ندعوا كل اناس بإمامهم‏)‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 71‏)‏ قال‏:‏ يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون‏:‏ اللهم آتنا بهذا وبارك لنا في هذا‏.‏ فيأتيهم فيقول لهم‏:‏ أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا‏.‏ وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ويراه أصحابه فيقولون‏:‏ نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا، اللهم لا تأتنا به‏.‏ فيأتيهم فيقولون‏:‏ اللهم أخزه، فيقول‏:‏ أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا ‏"‏ حديث غريب حسنه الترمذي‏.‏

وفي السنن عن عائشة رضي الله عنها ذكرت النار فبكت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما يبكيك‏؟‏ قالت‏:‏ ذكرت النار فكبيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا‏:‏ عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أو يثقل، وعند الكتاب حين يقول ‏(‏هاؤم اقرؤا كتابيه‏)‏ ‏(‏الحاقة‏:‏ 19‏)‏ حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أو في شماله أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم ‏"‏‏.‏

وروى ابن أبي حاتم عن أبي عثمان قال‏:‏ المؤمن يعطى كتابه بيمينه في ستر من الله فيقرأ سيئاته، فكلما قرأ سيئاته تغير لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه، ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات‏.‏ قال فعند ذلك يقول‏:‏ هاؤم اقرؤوا كتابيه ‏"‏‏.‏

وله عن عبد الله بن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال‏:‏ إن الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي- أي يظهر- سيئاته في ظهر صحيفته فيقول له‏:‏ أنت عملت هذا‏؟‏ فيقول نعم أي رب، فيقول له‏:‏ إني لم أفضحك به وإني قد غفرت لك‏.‏ فيقول عند ذلك‏:‏ ‏(‏هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه‏)‏ ‏(‏الحاقة‏:‏ 19‏)‏ حين نجا من فضيحته يوم القيامة‏.‏ وقد تقدم حديث ابن عمر الصحيح في النجوى وفيه في المؤمن‏:‏ ‏"‏ ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد‏:‏ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنه الله على الظالمين ‏"‏‏.‏

وعن ابن السائب في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأما من أوتي كتابه بشماله‏)‏ ‏(‏الحاقه‏:‏ 25‏)‏ قال ابن السائب‏:‏ تلوى يده اليسرى خلف ظهره ثم يعطى كتابه‏.‏ وقيل تنزع يده اليسرى من صدره إلى خلف ظهره ثم يعطى كتابه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ تخلع يده اليسرى من وراء ظهره‏.‏ وقال البغوي في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأما من أوتي كتابه وراء ظهره‏)‏ ‏(‏الانشقاق‏:‏ 10‏)‏ قال‏:‏ فتغل يده اليمنى إلى عنقه وتجعل يده الشمال وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره‏.‏

فصل‏:‏ فيما جاء في الميزان

والوزن بالقسط فلا ظلم ولا *** يؤخذ عبد بسوى ما عملا

فبين ناج راجح ميزانه *** ومقرف أوبقه عدوانه

‏(‏والوزن‏)‏ لأعمال العباد ‏(‏بالقسط‏)‏ العدل ‏(‏فلا ظلم‏)‏ على أحد يومئذ؛ لأن الحاكم فيه هو العدل الحكيم الذي حرم الظلم على نفسه وجعله على عباده محرما فلا يهضم أحد من حسناته‏.‏ ‏(‏ولا يؤخذ عبد بسوى ما عملا‏)‏ الألف للإطلاق، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون‏)‏ ‏(‏يس‏:‏ 54‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين‏)‏ ‏(‏الأنبياء‏:‏ 47‏)‏ وقال تعالى عن لقمان‏:‏ ‏(‏يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير‏)‏ ‏(‏لقمان‏:‏ 16‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 40‏)‏‏.‏

‏(‏فبين ناج راجح ميزاته إلخ‏)‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون‏)‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 9‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوجهم النار وهم فيها كالحون‏)‏ ‏(‏المؤمنون‏:‏ 102‏)‏ الآيات‏.‏

وقال تعالى ‏"‏ ‏(‏فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاويه وما أدراك ما هيه نار حامية‏)‏ ‏(‏القارعة‏:‏ 6- 11‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا‏)‏ ‏(‏الكهف‏:‏ 105‏)‏‏.‏

وفي الترمذي عن النضر بن أنس بن مالك عن أبيه قال‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال‏:‏ ‏"‏ أنا فاعل- يعني إن شاء الله- قلت‏:‏ يا رسول الله، فأين أطلبك قال‏:‏ اطلبني أول ما تطلبني على الصراط‏.‏ قلت‏:‏ فإن لم ألقك على الصراط‏؟‏ قال‏:‏ فاطلبني عند الميزان‏.‏ قلت‏:‏ فإن لم ألقك عند اليزان‏؟‏ قال‏:‏ فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن ‏"‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏

وفي سنن أبي داود وغيره حديث عائشة المتقدم وفيه‏:‏ ‏"‏ وعند الميزان حتى يثقل أو يخف ‏"‏ الحديث‏.‏

والقول في الموزون على ثلاثة أوجه‏:‏

الأول‏:‏ أنه الأعمال نفسها هي التي توزن، وأن أفعال العباد تجسم فتوضع في الميزان‏.‏

ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كلمتان حبيبتان إلى الرحمن حفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم ‏"‏‏.‏

وفي الصحيح عن أبي أمامة الباهلي قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه‏.‏ اقرأوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة ‏"‏ قال معاوية‏:‏ بلغني أن البطلة السحرة‏.‏ ومعاوية هو ابن سلام‏.‏

وفيه عن النواس بن سمعان الكلابي قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران ‏"‏ وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال‏:‏ كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما ‏"‏‏.‏ وقال الترمذي رحمه الله تعالى‏:‏ معنى هذا الحديث عند أهل العلم أنه يجيء ثواب قراءة القرآن‏.‏ وفي حديث النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ما فسروا إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وأهله الذين يعملون به في الدنيا ‏"‏ ففي هذا دلالة أنه يجيء ثواب العمل‏.‏ ا‏.‏ هـ‏.‏

قلت‏:‏ ولا مانع من كون الآتي هو العمل نفسه كما هو ظاهر الحديث فأما أن يقال إن الآتي هو كلام الله نفسه فحاشا وكلا ومعاذ الله؛ لأن كلامه تعالى صفته ليس بمخلوق والذي يوضع في الميزان هو فعل العبد وعمله ‏(‏والله خلقكم وما تعملون‏)‏ ‏(‏الصافات‏:‏ 96‏)‏ وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال‏:‏ كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول‏:‏ ‏"‏ تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة ‏"‏ قال ثم سكت ساعة ثم قال‏:‏ ‏"‏ تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول له‏:‏ هل تعرفني‏؟‏ فيقول ما أعرفك‏.‏ فيقول‏:‏ أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت مقلتك، وإن كل تاجر من وراء تجارتك وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج من الوقار ويكسى والداه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا فيقولان‏:‏ بما كسينا هذا‏؟‏ فيقال بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها فهو في صعود ما دام يقرأ هذًّا كان أو ترتيلا ‏"‏‏.‏

وإسناده حسن والقول بأن الأعمال هي ذاتها التي توزن ذكره البغوي عن ابن عباس رضي الله عنه‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن صحائف الأعمال هي التي توزن‏.‏

ويدل لذلك ما روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول‏:‏ أتنكر من هذا شيئا‏؟‏ أظلمك كتبتي الحافظون‏؟‏ قال‏:‏ لا يارب‏.‏ قال‏:‏ أفلك عذر أو حسنة‏؟‏ قال‏:‏ فبهت الرجل فيقول لا يارب، فيقول‏:‏ بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم‏.‏ فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فيقول أحضروه، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات‏؟‏ فيقول إنك لا تظلم، قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، قال فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، قال ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏ ورواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن غريب‏.‏

والثالث‏:‏ أن الموزون ثواب العمل وهو اطراد ما نقله الترمذي في معنى حديث النواس‏.‏

الرابع‏:‏ أن الموزون هو العامل نفسه‏.‏

ويدل لذلك ما روى أحمد بن علي رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه صعد شجرة يجتني الكباث، فجعل الناس يعجبون من دقة ساقيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده هما في الميزان أثقل من أحد ‏"‏‏.‏

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ‏"‏ وقال اقرأوا‏:‏ ‏(‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا‏)‏ ‏(‏الكهف‏:‏ 105‏)‏‏.‏ ولابن أبي حاتم عنه رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم فيوزن بحبة فلا يزنها ‏"‏ قال وقرأ‏:‏ ‏(‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا‏)‏ ‏(‏الكهف 105‏)‏ رواه ابن جرير‏.‏

وروى البزار عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال‏:‏ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام على النبي قال‏:‏ ‏"‏ يا بريدة، هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا ‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ والذي استظهر من النصوص- والله أعلم- أن العامل وعمله وصحيفة عمله كل ذلك يوزن؛ لأن الأحاديث التي في بيان القرآن قد وردت بكل من ذلك ولا منافاة بينها، ويدل لذلك ما رواه أحمد رحمه الله تعالى عن عبد الله بن عمرو في قصة صاحب البطاقة بلفظ‏:‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة ويوضع ما أحصي عليه فيمايل به الميزان، قال فيبعث به إلى النار‏.‏ قال فإذا أدبر إذا صائح من عند الرحمن عز وجل يقول لا تعجلوا فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيه لا إله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان ‏"‏ فهذا الحديث يدل على أن العبد يوضع هو وحسناته وصحيفتها في كفة وسيئاته مع صحيفتها في الكفة الأخرى وهذا غاية الجمع بين ما تفرق ذكره في سائر أحاديث الوزن، ولله الحمد والمنة‏.‏

وروى أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه فقال‏:‏ يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك ‏"‏ فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما له لا يقرأ كتاب الله‏:‏ ‏(‏ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين‏)‏ ‏(‏الأنبياء‏:‏ 47‏)‏ فقال الرجل‏:‏ يا رسول الله، ما أجد شيئا خيرا من فراق هؤلاء- يعني عبيده- إني أشهدك أنهم أحرار كلهم ‏"‏‏.‏

فصل‏:‏ فيما جاء في الصراط

وينصب الجسر بلا امتراء *** كما أتى في محكم الأنباء

يجوزه الناس على أحوال *** بقدر كسبهم من الأعمال

فبين مجتاز إلى الجنان *** ومسرف يكب في النيران

‏(‏وينصب الجسر‏)‏ وهو الصراط على متن جهنم ‏(‏بلا امتراء‏)‏ بلا شك ‏(‏كما أتى في محكم الأنباء‏)‏ من الآيات والأحاديث ‏(‏يجوزه‏)‏ يمر عليه الناس ‏(‏على أحوال‏)‏ متفاوتة ‏(‏بقدر كسبهم‏)‏ في الحياة الدنيا ‏(‏من الأعمال‏)‏ من إحسان أو إساءة أو تخليط، ‏(‏ف‏)‏ هم ‏(‏بين مجتاز‏)‏ عليه ‏(‏إلى الجنان‏)‏ وهم المؤمنون على تفاوت درجاتهم ومراتبهم في البطء والإسراع ‏(‏ومسرف‏)‏ على نفسه ‏(‏يكب في النيران‏)‏ فلا ينجو، ومنهم من تلفحه وتمسه النار بقدر ذنبه ثم يخرج منها قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا‏)‏ ‏(‏مريم‏:‏ 71‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير‏)‏ ‏(‏الحديد‏:‏ 12- 15‏)‏‏.‏

وروى الإمام أحمد عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال‏:‏ اختلفنا في الورود، فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له‏:‏ إنا اختلفنا في الورود، فقال‏:‏ يردونها جميعا‏.‏

وقال سليمان بن مرة‏:‏ يدخلونها جميعا، وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال‏:‏ صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا ‏"‏‏.‏

وروى الحسن بن عرفة عن خالد بن معدان قال‏:‏ قال أهل الجنة بعدما دخلوا الجنة‏:‏ ألم يعدنا ربنا الورود على النار‏؟‏ قال‏:‏ قد مررتم عليها وهي خامدة‏.‏

وروى عبد الرزاق عن قيس بن حازم قال‏:‏ كان عبد الله بن رواحة واضعا رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته فقال ما يبكيك‏؟‏ قالت رأيتك تبكي فبكيت، قال إني ذكرت قول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ فلا أدري أأنجو منها أم لا‏.‏

وله عن ابن عباس في قصة مخاصمته نافع بن الأزرق، فقال ابن عباس‏:‏ الورود الدخول، فقال نافع لا‏.‏ فقرأ ابن عباس‏:‏ ‏(‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون‏)‏ ‏(‏الأنبياء‏:‏ 98‏)‏ أوردوها أم لا‏؟‏ وقال‏:‏ ‏(‏يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار‏)‏ ‏(‏هود‏:‏ 98‏)‏ أوردوها أم لا‏؟‏ أما أنا وأنت فسندخلها، فانظر هل نخرج منها أم لا، وما أرى الله تعالى مخرجك منها بتكذيبك، فضحك نافع‏.‏

وروى ابن جرير عن مجاهد قال‏:‏ كنت عند ابن عباس فأتاه رجل يقال له أبو راشد وهو نافع بن الأزرق، فقال له‏:‏ يا ابن عباس، أرأيت قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا‏)‏ ‏(‏مريم‏:‏ 71‏)‏ قال‏:‏ أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها، فانظر هل نصدر عنها أم لا‏.‏ وعنه رضي الله عنه في ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ ‏(‏مريم‏:‏ 71‏)‏ قال‏:‏ البر والفاجر، ألا تسمع إلى قول الله تعالى لفرعون‏:‏ ‏(‏يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار‏)‏ ‏(‏هود‏:‏ 98‏)‏ الآية‏.‏ ‏(‏ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا‏)‏ ‏(‏مريم‏:‏ 86‏)‏ فسمى الورود على النار دخولا وليس بصادر‏.‏

وروى الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏‏)‏ ‏(‏مريم‏:‏ 71‏)‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم ‏"‏ ورواه الترمذي هكذا مرفوعا، وقد رواه ابن أبي حاتم عنه موقوفا قال‏:‏ ‏"‏ يرد الناس جميعا الصراط، ورودهم قيامهم حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم‏:‏ فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم مرا رجل نوره على موضع إبهامي قدميه يمر فيتكفأ به الصراط، والصراط دحض مزلة عليه حسك كحسك القتاد حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس ‏"‏ الحديث‏.‏

وروى ابن جرير عنه في ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ ‏(‏مريم‏:‏ 71‏)‏ قال‏:‏ الصراط على جهنم مثل حد السيف فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون‏:‏ اللهم سلم سلم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإن منكم إلا واردها‏)‏ ‏(‏مريم‏:‏ 71‏)‏ قال‏:‏ هو الممر عليها، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها، وورود المشركين أن يدخلوها‏.‏

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم ‏"‏‏.‏ قال الزهري‏:‏ كأنه يريد هذه الآية‏:‏ ‏(‏وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا‏)‏ ‏(‏مريم‏:‏ 71‏)‏ قال ابن مسعود‏:‏ قسما واجبا‏.‏ وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا مرفوعا من حديثه الطويل في الرؤية والشفاعة وفيه‏:‏ ‏"‏ ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم‏.‏ وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان‏؟‏ قالوا نعم يا رسول الله، قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله عز وجل تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله والموثق بعمله، ومنهم المخردل أو المجازى أو نحوه ‏"‏ الحديث‏.‏

وفيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه من حديثه الطويل في ذلك مرفوعا وفيه ‏"‏ ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم‏.‏ قلنا يا رسول الله، وما الجسر‏؟‏ قال مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان، يمر المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحبا ‏"‏ الحديث‏.‏

ولمسلم عن أنس عن ابن مسعود رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة- فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال‏:‏ تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين ‏"‏ الحديث‏.‏ وفي رواية عن ابن مسعود ‏"‏ رجل يخرج من النار حبوا ‏"‏‏.‏

وفيه عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما في حديث استفتاح الجنة عن النبي صلى الله عليه وسلم مطولا‏.‏ وفيه‏:‏ ‏"‏ وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق، قال قلت‏:‏ بأبي أنت وأمي، أي شيء كمر البرق‏؟‏ قال‏:‏ ألم ترو إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين، ثم كمر الطير، وتشد الرجال تجري بهم أعمالهم، قال ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحافا‏.‏ قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج ومكدوس في النار‏.‏ والذي نفس أبي هريرة بيده إن جهنم لسبعون حريفا ‏"‏‏.‏ وفيه أيضا في بعض طرق حديث أبي سعيد المتقدم قال أبو سعيد‏:‏ بلغني أن الجسر أدق من الشعرة وأحد من السيف ‏"‏‏.‏ وفيه عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن الورود الحديث‏.‏ وفيه رؤية الله تعالى ‏"‏ فيتجلى لهم يضحك، قال فينطلق بهم ويتبعونه ويعطي كل إنسان- منافق أو مؤمن- نورا ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله تعالى، ثم يطفأ نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون فتنجون أول زمرة وجوهم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون ‏"‏ وذكر الحديث‏.‏

وقال عبد الله بن مسعود في قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏يسعى نورهم بين أيديهم‏)‏ ‏(‏الحديد‏:‏ 12‏)‏ ‏"‏ قال‏:‏ على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة ‏"‏ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏ من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء فدون ذلك، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه ‏"‏‏.‏

وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم سترا منه على عباده، وأما عند الصراط فإن الله تعالى يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا، فإذا استووا على الصراط سلب الله تعالى نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون‏:‏ انظرونا نقتبس من نوركم، وقال المؤمنون‏:‏ ربنا أتمم لنا نورنا، فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا ‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وذلك من تأويل قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير‏)‏ ‏(‏الحديد‏:‏ 8‏)‏ وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء وأبي ذر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود، وأول من يؤذن له برفع رأسه فأنظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم‏.‏ فقال له رجل يا نبي الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح إلى أمتك‏؟‏ فقال أعرفهم محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوهم، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم ‏"‏ وقال الضحاك‏:‏ ليس أحد إلا يعطى نورا يوم القيامة فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفئ نور المنافقين فقالوا‏:‏ ربنا أتمم لنا نورنا‏.‏ وقال الحسن رحمه الله ‏(‏يسعى نورهم بين أيديهم‏)‏ ‏(‏الحديد‏:‏ 12‏)‏ قال‏:‏ على الصراط‏.‏ ا‏.‏ هـ‏.‏

وقد أنكر الصراط والمرور عليه أهل البدعة والهوى من الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، وتأولوا الورود برؤية النار لا أنه الدخول والمرور على ظهرها، وذلك لاعتقادهم أن من دخل النار لا يخرج منها ولو بالإصرار على صغيرة، فخالفوا الكتاب والسنة والجماعة وردوا الآيات والأحاديث الواردة في الورود والمقام المحمود والشفاعة، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أن نافع بن الأزرق مارى ابن عباس رضي الله عنهما في الورود فقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هو الدخول، وقال نافع‏:‏ ليس الورود الدخول، فتلا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون‏)‏ ‏(‏الأنبياء‏:‏ 98‏)‏ أدخلها هؤلاء أم لا‏؟‏ ثم قال‏:‏ يا نافع أما والله أنت وأنا سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله منها وما أرى الله عز وجل أن يخرجك منها بتكذيبك ‏"‏‏.‏

فصل‏:‏ فيما ورد في الجنة والنار

والنار والجنة حق وهما *** موجودتان لا فناء لهما

أي ومن الإيمان باليوم الآخر والإيمان بالجنة والنار، والبحث فيه ينحصر في ثلاثة أمور‏:‏

الأول‏:‏ كونهما حقا لا ريب فيهما ولا شك، وأن النار دار أعداء الله، والجنة دار أوليائه‏.‏

وهذا هو المشار إليه بقولنا حق، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار‏)‏ ‏(‏التحريم‏:‏ 6- 8‏)‏ الآيات‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فاتقوا النار التي أعدت للكافرين وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 25‏)‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين‏)‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 131- 133‏)‏ الآيات‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وكفى بجهنم سعيرا إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 55- 57‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين‏)‏ ‏(‏يونس‏:‏ 7- 8‏)‏

وقال تعالى في أولياء الشيطان‏:‏ ‏(‏يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 120- 122‏)‏‏.‏ وقال تعالى لإبليس‏:‏ ‏(‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين‏)‏ ‏(‏الحجر‏:‏ 42- 46‏)‏ الآيات‏.‏ وغيرها كثيرة في القرآن شهيرة كلما يذكر الجنة عطف عليها بذكر النار وكلما يذكر أهل النار عطف عليهم بذكر أهل الجنة، فتارة يعد ويتوعد وتارة يخبر عما أعد في الجنة من النعيم المقيم لأوليائه، ويخبر عما أرصد في النار من العذاب الأليم لأعدائه وغير ذلك، فمن رام استقصاءه فليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته بتدبر وقلب شهيد والله الموفق‏.‏

وقال البخاري رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا صدقة بن الفضل حدثنا الوليد عن الأوزاعي قال حدثني عمير بن هانئ قال حدثني جنادة بن أبي أمية عن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الجنة على ما كان من العمل ‏"‏ زاد في رواية ‏"‏ من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء ‏"‏ ووافقه على إخراجه مسلم وغيره‏.‏

ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال‏:‏ ‏"‏ اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق والساعة حق‏.‏ اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت- أو لا إله غيرك- ‏"‏ زاد في رواية ‏"‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله ‏"‏ هذا لفظ البخاري في باب التهجد‏.‏

وقد روياه من طرق كثيرة بألفاظ متقاربة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الشهادة بحقية الجنة والنار مع الشهادة بحقية الله وحقية رسله عليهم السلام وحقية وعده الصادق وهما- أي الجنة والنار- من وعده الصادق الذي أقسم على صدقه وحقيته ووقوعه في غير ما موضع من كتابه وفي حديث عبادة هذا أنه صلى الله عليه وسلم علق دخول الجنة والنجاة من النار بالتصديق بهما والشهادة بذلك، ولهذا يقول الله عز وجل يوم القيامة لأهل النار‏:‏ ‏(‏هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنت تكفرون‏)‏ ‏(‏يس‏:‏ 63- 64‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا‏)‏ ‏(‏الطور‏:‏ 13- 15‏)‏ الآيات وغيرها‏.‏ وتقدم في بعض ألفاظ حديث جبريل من رواية ابن عباس عند أحمد ‏"‏ قال‏:‏ فحدثني ما الإيمان‏؟‏ قال الإيمان أن تؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وتؤمن بالموت وبالحياة بعد الموت وتؤمن بالجنة والنار والحساب والميزان ‏"‏ الحديث، وغير ذلك من الأحاديث‏.‏

البحث الثاني‏:‏ اعتقاد وجودهما الآن

قال الله تعالى في الجنة‏:‏ ‏(‏أعدت للمتقين‏)‏ ‏(‏أعدت للذين آمنوا بالله ورسله‏)‏ ‏(‏فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون‏)‏ ‏(‏السجدة‏:‏ 17‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى‏)‏ ‏(‏النجم‏:‏ 14‏)‏ وغيرها من الآيات يخبر تعالى أنها معدة قد أوجدت، وأنها مخفية لأولياء الله تعالى مدخرة لهم، وأنها في السماء وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها ليلة المعراج ورآها‏.‏ وقال تعالى في النار‏:‏ ‏(‏أعدت للكافرين‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا‏)‏ ‏(‏والظالمين أعد لهم عذابا أليما‏)‏ ‏(‏إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا‏)‏ فهي أيضا معدة لأعداء الله تعالى مرصدة لهم‏.‏

وقال البخاري في صحيحه ‏"‏ باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة ‏"‏ ثم ذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ‏"‏‏.‏ وحديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ‏"‏‏.‏ وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال ‏"‏ بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن هذا القصر فقالوا لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته فوليت مدبرا‏.‏ فبكى عمر وقال‏:‏ عليك أغار يا رسول الله ‏"‏‏؟‏ وحديثه رضي الله عنه أيضا قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ قال الله تعالى‏:‏ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم‏:‏ ‏(‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون‏)‏‏.‏

ثم ساق الأحاديث في صفتها ثم قال ‏"‏ باب صفة النار وأنها مخلوقة ‏"‏ ثم ذكر فيه حديث أبي ذر وأبي سعيد رضي الله عنهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم ‏"‏‏.‏ وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اشتكت النار إلى ربها فقالت‏:‏ رب أكل بعضي بعضا‏.‏ فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون في الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير ‏"‏‏.‏ وحديث ابن عباس ورافع بن خديج وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء ‏"‏‏.‏ وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ‏"‏ قيل يا رسول الله إن كانت لكافية‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها ‏"‏‏.‏ وفيه من حديث أنس بن مالك في المعراج ‏"‏ ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبائل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ‏"‏‏.‏ وفيه من حديث مالك بن صعصعة في ذلك وفيه ‏"‏ ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة‏.‏ قال‏:‏ هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار‏:‏ نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت‏:‏ ما هذان يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات ‏"‏ الحديث‏.‏

وفيهما من حديث صلاة الكسوف وخطبته صلى الله عليه وسلم فيها وأنه عرضت عليه الجنة والنار وأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يتناول من الجنة عنقودا فقصرت يده عنه، وأنه لو أخذ لأكلوا منه ما بقيت الدنيا، وأنه رأى النار ورأى فيها صاحب المحجن الذي كان يسرق الحاج، ورأى فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، ورأى المرأة التي تعذب هرة حبستها وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لم أر منظرا كاليوم أفظع ‏"‏‏.‏

وفي صحيح مسلم والسنن والمسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبرائيل إلى الجنة فقال‏:‏ اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها‏.‏ فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها فرجع فقال‏:‏ وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها‏.‏ فأمر بالجنة فحفت بالمكاره فقال ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال فنظر إليها ثم رجع فقال‏:‏ وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، قال ثم أرسله إلى النار قال اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها قال فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضا ثم رجع فقال‏:‏ وعزتك لا يدخلها أحد سمع بها فأمر بها فحفت بالشهوات ثم قال اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب فنظر إليها فرجع فقال وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها ‏"‏‏.‏

وقد تقدم في أحاديث عذاب القبر وأحوال البرزخ وذكر الجنة والنار ورؤية كل منزلة فيها، وعرض مقعده عليه وفتح باب إحديهما إليه وأن أرواح المؤمنين في عليين وأرواح الفجار في سجين، وغير ما ذكرنا من الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة ما لا يحصى، وإلى هذه المسألة الإشارة بقولنا ‏(‏موجودتان‏)‏‏.‏

البحث الثالث‏:‏ في دوامهما وبقائهما بإبقاء الله لهما، وأنهما لا تفنيان أبدا ولا يفنى من فيهما

وإلى هذه المسألة الإشارة بقولنا ‏(‏لا فناء لهما‏)‏ قال الله تعالى في الجنة‏:‏ ‏(‏خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم‏)‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 100‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين‏)‏ ‏(‏الحجر‏:‏ 48‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ‏)‏ ‏(‏هود‏:‏ 108‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن هذا لرزقنا ما له من نفاد‏)‏ ‏(‏ص‏:‏ 54‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن المتقين في مقام أمين‏)‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم‏)‏ ‏(‏الدخان‏:‏ 51- 57‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لا مقطوعة ولا ممنوعة‏)‏ ‏(‏الواقعة‏:‏ 33‏)‏ وغير ذلك من الآيات‏.‏ فأخبر تعالى بأبديتها بقوله‏:‏ ‏(‏خالدين فيها أبدا‏)‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 22‏)‏ ‏(‏إن هذا لرزقنا ما له من نفاد‏)‏ ‏(‏ص‏:‏ 54‏)‏ وأبدية حياة أهلها بقوله‏:‏ ‏(‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏)‏ ‏(‏الدخان‏:‏ 56‏)‏ وعدم انقطاعها عنهم بقوله‏:‏ ‏(‏لا مقطوعة ولا ممنوعة‏)‏ ‏(‏الواقعة‏:‏ 33‏)‏ ‏(‏عطاء غير مجذوذ‏)‏ ‏(‏هود‏:‏ 108‏)‏ وبعدم خروجهم بقوله‏:‏ ‏(‏وما هم منها بمخرجين‏)‏ ‏(‏الحجر‏:‏ 48‏)‏ وكذلك النار، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 168‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا‏)‏ ‏(‏الأحزاب‏:‏ 64‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا‏)‏ ‏(‏الجن‏:‏ 23‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما‏)‏ ‏(‏الفرقان‏:‏ 65- 66‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ولهم عذاب مقيم‏)‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 68‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏وما هم بخارجين من النار‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 167‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون‏)‏ ‏(‏الزخرف‏:‏ 74- 77‏)‏ الآيات‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏(‏والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير‏)‏ ‏(‏فاطر‏:‏ 36- 37‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون‏)‏ ‏(‏المؤمنون‏:‏ 106- 108‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏ألا إن الظالمين في عذاب مقيم‏)‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 45‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى‏)‏ ‏(‏طه‏:‏ 74‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى‏)‏ ‏(‏الأعلى‏:‏ 10- 13‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لابثين فيها أحقابا‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏فلن نزيدكم إلا عذابا‏)‏ ‏(‏النبأ‏:‏ 23- 30‏)‏ وغير ذلك في القرآن كثير‏.‏ فأخبرنا تعالى في هذه الآيات وأمثالها أن أهل النار الذين هم أهلها خلقت لهم وخلقوا لها وأنهم خالدون فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين لا فكاك لهم منها ولا خلاص، ولات حين مناص‏.‏ فأخبر تعالى عن أبديتهم فيها بقوله‏:‏ ‏(‏خالدين فيها أبدا‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 169‏)‏ ونفى تعالى خروجهم منها بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وما هم بخارجين من النار‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 167‏)‏ ونفى تعالى انقطاعها عنهم بقوله عز وجل‏:‏ ‏(‏ولا يخفف عنهم من عذابها‏)‏ ‏(‏فاطر‏:‏ 36‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏لا يفتر عنهم‏)‏ ‏(‏الزخرف‏:‏ 75‏)‏ ونفى فناءهم فيها بقوله عز وجل‏:‏ ‏(‏ثم لا يموت فيها ولا يحيى‏)‏ ‏(‏الأعلى‏:‏ 13‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 56‏)‏‏.‏

وقال البخاري رحمه الله تعالى في قول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر‏)‏ ‏(‏مريم‏:‏ 39‏)‏ حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد‏:‏ يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ فيقولون نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه ثم ينادي‏:‏ يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون فيقول‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ فيقولون نعم، هذا الموت وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقول‏:‏ يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ‏:‏ ‏(‏وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة‏)‏ ‏(‏مريم‏:‏ 39‏)‏ وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا وهم لا يؤمنون ‏"‏ ووافقه على إخراجه مسلم من حديث أبي سعيد هذا‏.‏

وأخرجاه أيضا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد‏:‏ يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم ‏"‏‏.‏

وفي رواية لمسلم عن عبد الله هو ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول‏:‏ يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت، كل خالد فيما هو فيه ‏"‏‏.‏ ورواه البخاري دون قوله كل خالد إلخ‏.‏ وله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يقال لأهل الجنة خلود لا موت، ولأهل النار‏:‏ يا أهل النار خلود لا موت ‏"‏‏.‏

وقال مسلم رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا بشر يعني ابن المفضل عن أبي مسلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه ومسلم‏:‏ ‏"‏ أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم- أو قال بخطاياهم- فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل‏:‏ يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل‏.‏ فقال رجل من القوم‏:‏ كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية ‏"‏‏.‏ ورواه الإمام أحمد من طرق بألفاظ متقاربة نحو هذا اللفظ‏.‏ وفي الباب آيات وأحاديث كثيرة غير ما ذكرنا، وفي هذا القدر كفاية وبالله التوفيق‏.‏

إخراج عصاة الموحدين من النار

نعم جاءت الأحاديث الصريحة بإخراج عصاة الموحدين الذين تمسهم النار بقدر جنايتهم وأنهم يخرجون منها برحمة الله تعالى ثم بشفاعة الشافعين كما سيأتي إن شاء الله قريبا، وأن هؤلاء العصاة يسكنون الطبقة العليا من النار على تفاوتهم في مقدار ما تأخذ منهم‏.‏ وجاء فيها آثار أن هذه الطبقة تفنى بعدهم إذا أخرجوا منها وأدخلوا الجنة، وأنها ليأتين عليها يوم وهي تصفق في أبوابها ليس بها أحد ‏"‏ وعلى ذلك حمل جمهور المفسرين الاستثناء في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إلا ما شاء ربك‏)‏ الآية‏.‏ وعلى ذلك يحمل ما ورد من آثار الصحابة‏.‏ وما أحسن ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه ‏(‏الوابل الصيب‏)‏ قال رحمه الله تعالى‏:‏ ولما كان الناس ثلاث طبقات‏:‏ طيب لا يشوبه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب- كانت دورهم ثلاثة‏:‏ دار الطيب المحض، ودار الخبيث المحض- وهاتان الداران لا تفنيان- ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد فإنهم إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة ولا يبقى إلا دار الطيب المحض ودار الخبيث المحض‏.‏ انتهى كلامه رحمه الله تعالى‏.‏

فصل‏:‏ ما قالته اليهود في النار

قالت اليهود قبحهم الله‏:‏ إن النار يدخلها قوم من الكفار ويخرجون منها بعد أيام ثم يخلفهم آخرون كما قص الله تعالى ذلك عنهم في سورة البقرة إذ يقول تعالى‏:‏ ‏(‏وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 80‏)‏ ثم رد ذلك عليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 80- 82‏)‏ وقال تعالى في آل عمران‏:‏ ‏(‏ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏)‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 24- 25‏)‏ وقال البخاري رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود‏.‏ فجمعوا له فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه‏؟‏ فقالوا نعم يا أبا القاسم‏.‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أبوكم‏؟‏ قالوا أبونا فلان‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كذبتم، بل أبوكم فلان‏.‏ فقالوا‏:‏ صدقت وبررت‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه‏؟‏ فقالوا نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته لأبينا‏.‏ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أهل النار‏؟‏ فقالوا‏:‏ نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها‏.‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدا‏.‏ ثم قال لهم‏:‏ فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه‏؟‏ قالوا نعم‏.‏ فقال‏:‏ هل جعلتم في هذه الشاة سما‏؟‏ فقالوا نعم‏.‏ فقال‏:‏ ما حملكم على ذلك‏؟‏ فقالوا‏:‏ أردنا إن كنت كذابا نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك ‏"‏‏.‏

وقال ابن عربي إمام الاتحادية محي الزندقة والإلحاد في آيات الله تعالى‏:‏ إن أهلها يعذبون فيها ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة النارية يتلذذون بها لموافقتها طبعهم‏.‏

وقال الجهم وشيعته‏:‏ إن الجنة والنار تفنيان كلاهما لأنهما حادثتان، وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه‏.‏ بناء على أصله الفاسد في منع تسلسل الحوادث وبقائها بإبقاء الله تعالى لها‏.‏

وقال طائفة من المعتزلة والقدرية‏:‏ لم يكونا الآن موجودتين بل ينشئهما الله تعالى يوم القيامة‏.‏ وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله وأنه ينبغي أن يفعل كذا ولا ينبغي له أن يفعل كذا قياسا لله تعالى على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجسيم فيهم فصاروا مع ذلك معطلة وقالوا‏:‏ خلق الجنة والنار قبل الجزاء عبث؛ لأنها تصير معطلة مددا متطاولة‏.‏ فردوا من نصوص الكتاب والسنة ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى وحرفوا النصوص عن مواضعها وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم قبحهم الله تعالى‏.‏

وقال أبو الهذيل العلاف‏:‏ تفنى حركات أهل الجنة والنار ويصيرون جمادا لا يحسون بنعيم ولا ألم‏.‏ وكل هذه الأقوال مخالفة لصحيح المعقول وصريح المنقول، ومحادة ومشاقة لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم، وتقديم للقعول السخيفة وزبالة الأذهان البعيدة والقلوب الشقية الطريدة، وزخارف فاسدي السيرة والسريرة والظاهر والباطن والعمل والعقيدة‏.‏ وما أحسن ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى في نونيته الكافية الشافية في أثناء حكايته عقيدة جهم وشيعته دمرهم الله تعالى‏:‏

وقضى بأن الله كان معطلا *** والفعل ممتنع بلا إمكان

ثم استحال وصار مقدورا له *** من غير أمر قام بالديان

بل حاله سبحانه في ذاته *** قبل الحدوث وبعده سيان

وقضى بأن النار لم تخلق ولا *** جنات عدن بل هما عدمان

فإذا هما خلقا ليوم معادنا *** فهما على الأوقات فانيتان

وتلطف العلاف من أتباعه *** فأتى بضحكة جاهل مجان

قال الفناء يكون في الحركات لا *** في الذات واعجبا لذا الهذيان

أيصير أهل الخلد في جناتهم *** وجحيمهم كحجارة البنيان

ما حال من قد كان يخشى أهله *** عند انقضاء تحرك الحيوان

وكذاك ما حال الذي رفعت يدا *** ه أكلة من صحيفة وخوان

فتناهت الحركات قبل وصولها *** للفم عند تفتح الأسنان

وكذاك ما حال الذي امتدت يد *** منه إلى قنو من القنوان

فتناهت الحركات قبل الأخذ هل *** يبقى كذلك سائر الأزمان

تبا لهاتيك العقول فإنها *** والله قد مسخت على الأبدان

تبا لمن أضحى يقدمها على ال *** آثار والأخبار والقرآن